تطوير اللجان الرياضية- رؤية للعدالة المؤسسية والنزاهة

المؤلف: فراس طرابلسي09.01.2025
تطوير اللجان الرياضية- رؤية للعدالة المؤسسية والنزاهة

في مقال سابق لي، تطرقت إلى موضوع حيوي وملحّ، وذلك تحت عنوان «الدوري يتطور، فهل تتطور اللجان؟»، وكان الهدف من ذلك المقال هو إلقاء الضوء بشكل واضح ومباشر على تلك الفجوة الآخذة في الاتساع باستمرار، بين التسارع الكبير والمشهود للمشروع التنموي الرياضي الذي تشهده مملكتنا الغالية، وبين البطء الشديد في آليات فض النزاعات والانضباط المتبعة داخل أروقة المنظومة الرياضية.

واستكمالاً وتعميقاً لما تم طرحه سابقاً، يأتي هذا المقال الحالي ليقدم لنا رؤية متكاملة ومتوازنة، وطرحاً واقعياً ومنطقياً حول سبل الارتقاء وتطوير آليات عمل اللجان الرياضية المختلفة، ليس من منظور التنظير الأكاديمي أو الطرح النظري، بل انطلاقاً من الحاجة الماسة والضرورة العملية الملحة لتحديث شامل لأدوات الانضباط والتقاضي، وبما يتماشى بشكل كامل مع تطلعات دولتنا الطموحة ومكانتها المرموقة والمتقدمة في المشهد الرياضي الدولي والإقليمي.

يكمن لبّ الإشكال وجوهره الأساسي ليس في نقص أو غياب النصوص القانونية المنظمة، بل في التباين الواضح في تفسير هذه النصوص، والتضارب الكبير في المخرجات والنتائج المترتبة عليها، إضافة إلى غياب التناغم والانسجام القضائي في تطبيقها على أرض الواقع. هذه الثغرة الموجودة لا تضعف فقط من قيمة ومصداقية العدالة الرياضية، بل قد تلقي بظلال كثيفة من الشك والريبة على ثقة الجمهور الرياضي، وتضعف بشكل ملحوظ من صورة الاحتراف المؤسسي الذي تسعى المملكة جاهدة لتحقيقه وترسيخه.

إن اللجان القضائية الرياضية ما زالت في مراحلها التأسيسية الأولى من حيث المنهج الإجرائي المتبع، حيث يغلب عليها بشكل واضح الاجتهاد الفردي للأعضاء بدلاً من الاعتماد على سوابق قانونية راسخة، تهدف إلى ترسيخ المبادئ القانونية الأساسية، وتوحيد التفسيرات المختلفة للنصوص، وتقليل التباين والتضارب في القرارات الصادرة بين لجان الانضباط والاستئناف ومركز التحكيم الرياضي.

مع كامل التقدير والاحترام للخبرات القانونية المتراكمة لدى الكثير من الأعضاء، إلا أنه يُلاحظ أن بعض اللجان تضم كوادر قانونية قد تكون ذات خلفية أكاديمية متميزة أو استشارية قيّمة، إلا أن العمل في هذا النوع من اللجان المتخصصة يتطلب مهارات نوعية إضافية ومحددة تتعلق بالصياغة القضائية الدقيقة، وتسبيب الأحكام بشكل مفصل وواضح، واستحضار الفقه النظامي والشرعي في السياقات المحلية المتنوعة. وهي عناصر ومهارات لا يمكن افتراض توافرها تلقائياً بمجرد الحصول على شهادة في القانون، بل تتطلب تدريباً تخصصياً مكثفاً ومستمراً.

على الرغم من أن اللجان الرياضية تُدار إدارياً من ضمن منظومة اللجنة الأولمبية، إلا أن طبيعة القرارات التي تصدرها وتأثيرها المباشر يمس حقوق الأندية الرياضية واللاعبين المحترفين والرعاة الرسميين والجمهور الرياضي العريض، مما يجعلها جزءاً لا يتجزأ من المنظومة العدلية الأوسع نطاقاً، ويتطلب بالتالي ضوابط ومعايير لا تقل دقة وإحكاماً عن تلك المعتمدة في المحاكم واللجان القضائية المتخصصة في بقية القطاعات الأخرى.

وفي العديد من الدول التي سبقتنا في تطوير منظومة العدالة الرياضية، مثل المملكة المتحدة وجمهورية فرنسا، تم إنشاء هيئات استئناف رياضية مستقلة تماماً، يشرف عليها قضاة محترفون متخصصون بالتنسيق الكامل مع الجهات الرياضية المعنية، مما أوجد توازناً دقيقاً وفعالاً بين خصوصية القطاع الرياضي ومتطلبات العدالة القضائية الصارمة.

ولتجاوز هذا الواقع الحالي، نقترح هنا أربعة مسارات تطويرية واضحة وقابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وتنسجم بشكل كبير مع الطابع المؤسسي الذي تسعى له المملكة في مشروعها الرياضي الطموح:

1 ــ إنشاء هيئة مرجعية عليا للتفسير القضائي الرياضي:

نقترح إنشاء هيئة متخصصة ذات كفاءة عالية ضمن هيكل اللجنة الأولمبية، تكون مهمتها الأساسية إصدار مبادئ تفسير موحدة وملزمة، على أن يتم اعتمادها من قبل جميع اللجان القضائية الرياضية المختلفة، وذلك بهدف تحقيق اتساق قانوني شامل ومنطقي في الأحكام الصادرة.

2 ــ نشر الأحكام وأسبابها القانونية المفصلة:

نقترح إلزام جميع اللجان الرياضية بصياغة أحكامها بشكل مسبب وواضح ومفصل، ونشرها بالكامل ضمن منصة إلكترونية موحدة ومتاحة للجميع، مما يساهم في رفع مستوى الشفافية بشكل ملحوظ، ويعزز بشكل كبير من جودة الأحكام الصادرة.

3 ــ توفير التدريب القضائي المتخصص والمستمر:

نقترح إعداد وتنفيذ برامج تأهيل قانوني مستمر ومتخصص لأعضاء اللجان الرياضية، وذلك بالتعاون الوثيق مع معاهد القضاء المرموقة ومعاهد الإدارة المتخصصة، لضمان فهمهم المتكامل والشامل للنصوص الرياضية والقواعد الإجرائية المتبعة.

4 ــ إدارة فعالة لتعارض المصالح:

نقترح وضع لوائح تنظيمية واضحة ومفصلة تمنع بشكل قاطع تضارب المصالح في عضوية اللجان المختلفة، بما يضمن نزاهة القرارات المتخذة، ويعزز بشكل كبير من استقلالية الجهات القضائية الرياضية.

إن تحديث البنية التحتية للجان الرياضية لم يعد مجرد ترفيه أو تحسين تنظيمي، بل أصبح ضرورة ملحة تتجاوز بكثير مجرد تحسين الأداء العام، فهي جزء أساسي من حماية سمعة المملكة العربية السعودية، وترسيخ صورتها كدولة رائدة وعصرية تولي اهتماماً كبيراً للعدالة، وتواكب مكانتها العالمية المرموقة في القطاع الرياضي.

وإذا كانت المملكة قد استثمرت بسخاء في تطوير البنية التحتية الرياضية والمنافسة الرياضية على أعلى المستويات العالمية، فإن استكمال بناء هذه المنظومة المتكاملة لا يتحقق إلا من خلال تطوير شامل لأدوات الانضباط وصياغة القرارات القانونية، وبما يعكس هذا الطموح الكبير، ويواكبها بمنهج مؤسسي متين وقوي، قادر على مواكبة التحولات السريعة، والوفاء بمتطلبات المرحلة القادمة بكل كفاءة واقتدار.

إن هذه المقترحات المقدمة لا تدّعي الكمال أو العصمة من الخطأ، لكنها تمثل محاولة جادة لتقديم رؤية تنظيمية متكاملة وقابلة للنقاش والتطوير المستمر، وذلك في سبيل بناء منظومة عدلية رياضية متطورة تعكس طموحات الدولة وقيم العدالة الراسخة التي أرستها رؤيتها التنموية الطموحة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة